فهم الآخر في العراق: من الانقسام الطائفي إلى إعادة الإنسانية

المشهد المقلق والمعقد في العراق وفي دول الشرق الأوسط الأخرى التي تشهد اضطرابات مدنية يُعزى غالبًا إلى تدخلات خارجية.

ومع ذلك، فإن من يعيش هناك أو عاش فيه، مثلي، يعلم أن الخطاب مشحون بمفاهيم مسبقة تتعلق بإلغاء الإنسانية بين المجموعات الاجتماعية المتباعدة، والأعراق، والأديان، والطوائف. كثيرًا ما يسود شعور “نحن مقابل هم”، تغذيه تعاليم دينية مشوهة، وتحيزات، وانقسامات اقتصادية واجتماعية. لفهم كيفية ظهور مثل هذا النظام البيئي، من المهم الإشارة إلى أن بعض أبرز المشكلات تكمن في الجهل وإلغاء إنسانية “الآخر”.

الآخر دائمًا غامض ومجرد. غالبًا ما تُصاحب هذه الفكرة وصمة تمييزية تجاه الدين أو العرق أو الانتماء الإثني. في علم النفس، يحمل فعل “الغيرية” (Othering) معاني محددة. أحد التفسيرات الشائعة هو وصم مجموعة ما لحماية الهوية الإيجابية للفرد أو الجماعة. يميز التفريق الاجتماعي بين “نحن” و”هم”، ويُفسر كاختلافات عرقية أو جغرافية أو أيديولوجية أو إثنية، مما يؤدي دائمًا إلى التحيز والانحياز، ويزدهر على إهانة المجموعة الأخرى.

في الإيثنوسنتريزم (مركزية العرق/الطائفة)، يشير مفهوم “الغيرية” إلى ميل المجموعة الداخلية لاعتبار نفسها متفوقة على الخارج، وبالتالي يصبح الآخر عضوًا في الخارج معرضًا للتحيز والتمييز. يصبح “الآخر” عملية فصل بين الدائرة الداخلية والخارجية. إن تصور “الآخر” غالبًا ما يكون مفهومًا مصطنعًا تحدده الإيديولوجيات والمعايير الثقافية والخبرات، وبالتالي يختلف عن الواقع الفعلي.

لذلك، يحدد التعليق على “الآخر” الخطاب ويصبح قوة يمكن أن تغذي الكراهية أو في بعض الأحيان تصحح المفاهيم الخاطئة. يبدأ قبول وتعايش المجموعات المتنوعة بفهم الفروق الحتمية.

من الواضح أن خطاب الانقسام في بلدي العراق يتغذى على الجهل والأمية، وقد تفاقم خلال العقود الماضية. وأصبح الوصول إلى المعرفة والأدب أقل أهمية، حيث أصبح البقاء والتكيف مع العراق بعد الحرب أولوية قصوى.

لقد أدى الانشغال الطويل بالاضطرابات المدنية إلى عزلة تلك المجموعات المتنوعة. يعيش المسيحيون، الإيزيديون، الأكراد، الشيعة والسنة في عوالم منفصلة، والحكومة الفاسدة راضية. شعار “فرق تسد” ينجح دائمًا.

على سبيل المثال، مع اقتراب الانتخابات، يذكّر السياسيون الشيعة القائمون على أساس ديني جماعاتهم بأهمية الولاء للطائفة، ما يجعل روح المواطنة تخضع للولاء للمجموعة، حيث يُعطى القسم للطائفة باعتبارها المجموعة الداخلية.

للأسف، نموذج الحكومة الطائفية الإيرانية هو أحد أكثر القضايا تأثيرًا وإشكالية في العراق المعاصر، حيث يلتزم الشيعة العراقيون بها. ويصبح الولاء للطائفة أهم من الولاء للبلد.

لزيادة فهمنا لهذه القضية، يمكن الرجوع إلى أمثلة تاريخية. على سبيل المثال، عصر النهضة كان تحولًا مجتمعيًا نحو العلم والتفكير العقلاني والمنطق. وفي عصر التنوير (عصر العقل)، خرجت أوروبا من ظلام العصور الوسطى بموجة فكرية وفلسفية، مما أدى إلى إصلاحات اجتماعية وحكومية مهمة، بالإضافة إلى تقدم الحرية والتسامح والحكومات الدستورية، وأهمها فصل الدين عن الدولة.

مثل هذا التحول مطلوب في العراق، لكن البلد شهد مؤخرًا خطوة إلى الوراء نحو عصور أكثر ظلمة، تغذيها أجندات سياسية مترابطة للسيطرة على الجماهير وضمان البقاء طويل المدى. تُستغل الجماهير عبر الخوف من “الآخر”. شعار “لا تدع السنة يحكمون” ظل مستخدمًا منذ فترة طويلة في الحكومة الشيعية.

ما يحدث في العراق يحدث أيضًا في مناطق أخرى من العالم حيث ينمو الكراهية والتحيز، مما يؤدي إلى الانفصال الاجتماعي. وقد تعلمنا من التغيرات العالمية والسياسية والاجتماعية الأخيرة أن التاريخ قد يعيد نفسه.

لذلك، من المهم تفكيك العوامل التي تؤدي إلى مثل هذا الانقسام. ولتطوير التعاطف مع الآخرين، من الضروري التعلم، والتواصل، والاستماع، والانفتاح على الحوار.

لتنمية هذه الصفات، يصبح التحول من خطاب قائم على الحكم إلى خطاب قائم على القبول أمرًا ضروريًا. كما تصف إليف شافاك، يُعد مفهوم “إعادة الإنسانية” (Re-humanisation) أساسًا للتغيير الإيجابي في مثل هذه البيئات المضطربة. قبل إصدار الأحكام العامة والمفاهيم الخاطئة، يجب أن نعيد إنسانية “الآخر”. تبدأ محاولات تغيير الخطاب الحالي من خلال التنوير اللازم في الشرق الأوسط، وبالأخص في العراق. ومن أجل أن يطور الناس قبولًا ويؤسسوا “إعادة الإنسانية”، يصبح الانفتاح الذهني ضروريًا، وغالبًا ما يسترشد بمستوى من التفكير التحليلي والفكري.

يجب أن يتم التواصل بين المجموعات المختلفة على مستويات متعددة وبأشكال متنوعة، ولهذا السبب فإن الوصول إلى الأدب حول “المجموعة الخارجية” مهم. التسامح، والقبول، والتعاطف مع “الآخر” هي صفات ضرورية. ومع ذلك، نعلم جميعًا أن تغيير عقلية عامة هو تحول كبير لا يتحقق إلا عندما يكون الجمهور جاهزًا. حتى يقرأ الناس ويستمعون ويتعلمون ويحترمون ويقبلون المجموعة الأخرى، لن يتغير المشهد العام.

سيرة قصيرة: الدكتورة شيرمين يوسف أستاذة مساعدة في العمارة، مهاجرة من العراق، وناشطة في حقوق النساء وقضايا الشرق الأوسط. كتبت هذه المقالة لموقع Ideas Beyond Borders.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *