ضياع الحلم في كردستان العراق

 التظاهر والاعتصام حق من حقوق الانسان في التعبير عن الرأي وإذا كانت سلمية فلا يجوز حرمانها او تقييدها، لا ديمقراطية بلا معارضة، ولا ديمقراطية بلا تداول سلمي للسلطة ولن تدوم السلطة لشخص ما مهما كانت قوته. لقد دقّت الحكومة الفاسدة في إقليم كردستان مؤخرا مسمارا جديدا في نعش حرية التعبير في العراق عبر قتل واعتقال وتعذيب المئات من المتظاهرين في شمال العراق الذين كانت كل مطالبهم هي صرف رواتب الموظفين المتأخرة منذ أشهر وتحسين الوضع المعيشي المتدهور في الإقليم. ما جرى ويجري في السليمانية لا يختلف عما حدث ويحدث كل يوم في بغداد والناصرية والبصرة وغيرها. نفس الأسباب والدوافع ونفس النتائج. أجل، إنه نفس الغضب الذي يدفع الجماهير إلى الانتقام من الأحزاب الحاكمة الفاسدة، ونفس القسوة التي تستخدم لقمع المتظاهرين بالهراوات وقنابل الغاز وبالرصاص الحي أخيرا. وقد اسفرت التظاهرات الأخيرة عن مقتل 10 أشخاص، من بينهم فتى يبلغ من العمر 16 عاما، وأصيب نحو 65 بجروح، وفُرض حظر تجوال وحظر سفر بين مدن محافظة السليمانية، وتعرض صحفيون للمضايقة، وتم حجب الإنترنت، وحُجبت مواقع التواصل الاجتماعي.

ان من أسباب الأزمة الحالية هو النهج المتّبع من الحزب الديموقراطي الكردستاني بزعامة الدكتاتور مسعود بارزاني وحزب الاتحاد الوطني الكردستاني بزعامة أبناء الملعون جلال طالباني ورفاقه في حكم الإقليم، واعتمادهما مبدأ تقاسم كعكة المراكز. أحكم الحزبان قبضتهما على موارد الإقليم الطبيعية وعوائدها المالية لتمويل توسعة نفوذهما. كما احتكرا الوظائف العامة ذات الدخل المرتفع لقواعدهما الشعبية الناخبة، فضلاً عن سيطرتهما الكاملة على المشاريع الاستثمارية في القطاعين العام والخاص. ونالت محافظة السليمانية النصيب الأكبر من تداعيات تلك الاضطرابات؛ نتيجة تعدّد الأحزاب فيها، والمعارضة القوية لنفوذ حزب الاتحاد الوطني، إضافة إلى استفحال الفساد بفارق كبير عن باقي محافظات الإقليم، بسبب المافيات التي تفرض الإتاوات على المستثمرين ورجال الأعمال، وتطالبهم بنسبة من أرباحهم.

 ان الازمة المالية والاخطاء السياسية المتراكمة وراء غضب الشارع الكردي، وأن حكومة بغداد تساهلت مع الاقليم في تحويل الرواتب لكنها لم توزع بانتظام، بالرغم من انه لم تلتزم حكومة إقليم كردستان ما يتوجب عليها من تسديد قيمة مبيعات ما لا يقل عن 250 ألف برميل من النفط يوميا لشركة النفط الوطنية العراقية، ويعود ذلك لكون الإقليم مكبل باتفاقيات مع شركات تركية لمدة 50 سنة وبه التزامات مالية ضخمة. ان اتهامات السليمانية لحكومة اربيل بعدم الشفافية في إدارة الملفات منها ماهي بنود الاتفاق مع الشركات التركية؟ اين تذهب ايرادات النفط؟ كم عدد موظفين أربيل؟ وهل يعانون نفس موظفي السليمانية؟ جملة من التساؤلات والاتهامات منها الرواتب المزدوجة في أربيل اضعاف حجمها عن باقي مدن الإقليم وحكومة (مسرور برزاني) ترفض تقديم قوائم صحيحة الى وزارة المالية في بغداد لحل مشكلة الرواتب وبشكل نهائي.

  ان وضع المعيشي سيء في الإقليم ادى الى خروج المتظاهرون والتعبير عن احتجاجهم بشكل قوي وصارخ، كما أن استمرار عمليات الفساد بشكل واسع في العراق عامة والإقليم خاصة لم يشعر المواطن والموظف الكردستاني بأن قانون الاصلاحات حقق نجاحاً أو قطع شوطاً في اتجاهه الصحيح، هذا علاوة على إجراءات الحكومة التي أدت إلى اقتطاع جزء من مرتبات موظفي الإقليم والتي تصل إلى 20 في المئة والدرجات الخاصة 50 بالمئة، والمفاوضات مع الحكومة الاتحادية لم تتوصل لحلول نهائية، مما أجج الشارع الكردي كنوع من الضغط المدني على الأحزاب السياسية المشاركة في حكومة الإقليم. الأموال الطائلة التي هبطت بالحق أو بالباطل على حكومة الإقليم الفاسدة لم تستطع أن تقيم مشروعا واحدا إنتاجيا استراتيجيا صناعيّا أو زراعيّا يؤمّن حياة الأجيال القادمة من غوائل الزمان وان الفارق الوحيد بين أحزاب السلطة في بغداد وبين حكام الإقليم وأخلاقهم هو أن في بغداد شلل حاكمة فاسدة كثيرة تتناطح فيما بينها على المناصب والمكاسب والرواتب، ولكن في كردستان شلّتان فاسدتان فقط لا غير.

كانت ظروف المجتمع الكردي أكثر استعدادا لتبني مؤسسات المجتمع المدني والممارسة الديمقراطية واحترام سيادة القانون، الا أن جوهر زعماء الأحزاب الكردية – وهي أحزاب مدججة بالسلاح – هم أسرى العقلية القبلية الهمجية الموروثة ولطموحاتهم وغاياتهم الشخصية والعائلية ومجردين من المبادئ، والفساد المتفشي في كردستان ليس دخيلاً أو غريباً، انما هو ناجم عن الحقبة الاقطاعية الطويلة في المجتمع الكردي، حيث (الأغا) هو مصدر السلطة، ويورثها لأولاده ولا يحق مسائلته، وقد كانت سلطة الأغوات في مناطق بادينان في أعوام الخمسينات والستينات من القرن الماضي، شاهداً على نمط الحكم الخارج عن القانون، هؤلاء الأغوات ذاع صيتهم كعصابة من اللصوص في بادينان لأكثر من قرن. قادة أحزاب اليوم هم أولاد وأحفاد أولئك الأغوات، وقد تكيفوا مع الحقوق القومية للشعب الكردي للحفاظ على مصالحهم وامتيازاتهم والتي لم تعد قابلاً للاستمرار بالفكر الاقطاعي الصارخ، ومن هنا غيروا أقنعتهم وتغطوا بعباءة القومية والدولة الكردية. أحفاد هؤلاء الأغوات اليوم هم سادة كردستان، وكثيرون منهم كانوا مرتزقة لدى صدام حسين ومشاركين في جرائمه ضد الشعب الكردي! هؤلاء هم المستفيدون من الفساد والافساد ويقفون ضدّ أي محاولة تغيير للوضع الراهن. ان ما يدور اليوم في كردستان العراق هو الحصيلة الأولية لنظام يحمل بذور فنائه منذ زمن طويل اقطاع متخلّف ببدلة رأسمالية رثّة لن يستطيع أن يفي بشؤون قرية. إذا كان وسط وجنوب العراق رثا بسبب الفساد المستشري منذ سبعة عشر عاما، فإن كردستان فيه نظام أكثر رثاثة رغم أنه سبق بقية أجزاء العراق بالتحرر من الصدامية بإثني عشر عاما، لكنها في عمقها ظلت تقلد ذلك النظام بكل أخطائه الفادحة: ثراء للحكام وقمع للمحكومين، فأصبحت جمهورية أسايش وليست فيدرالية كردية في العراق.