شعائر عاشوراء بين الحقيقة والخرافة

“إن أهل الشرائع أخذوا الدين عن رؤسائهم بالتقليد ودفعوا النظر والبحث عن الأصول وشددوا فيه ونهوا عنه ورووا عن رؤسائهم اخباراً توجب عليهم ترك النظر في ديانة وتوجب الكفر على من خالف الاخبار التي رووها” أبو بكر الرازي. هناك صبغتان للجهل الأولى دينة والثانية علمية، فالصبغة الدينية يتميز بها الناس الذين يركضون وراء الدين دون إدراك أو تفكير، وأصبح الدين عندهم عادة او خرافة خرجت من طور العبادة؛ فلا يفكرون في شيء، وأخطرهم الذين تركوا الحياة وتفرغوا للخرافات والشعائر البعيدة عن العقل. والمشكلة في هذا النوع من الجهل هو جهل مجتمعي وليس فردي، وأثاره تظهر على المجتمع بشكل عام، والدليل ما نراه في زماننا الآن من حروب وكوارث وصراعات مغلفة باسم الدين، فكل طرف يقاتل ويقول إن الله يقاتل معه وأنه يقاتل في سبيله.

 فالشعائر والطقوس التي نراها في شهر محرم هي مظهر من مظاهر التخلف المجتمعي، فنرى اللطم على الوجوه، والندب على الصدور، والبكاء والعويل، وضرب الأجساد بالجنازير، والرؤوس بالسيوف، وطلي الوجوه بالوحل، والنباح والزحف على البطون، ولبس السواد وأظهروا الحداد حزناً على “الحسين بن علي (رضي الله عنه)، والذي قتل مع مجموعة من أهل بيته فيما سمي معركة “كربلاء” منذ 1400 عام، ولم يكن لهذه الوقعة في السابق هذه المظاهر من الأسى والحزن! إلى أن جاء البويهيون واعتنقوا المذهب الشيعي فأعطوا لهذه الوقعة شيئًا من الأهمية، لكن الذي أعطاها هذا البعد المأساوي وجعل منها كارثة حلت بالمسلمين تستوجب كل هذه العذابات هو “اسماعيل الصفوي” الذي اعتنق المذهب الشيعي نكاية بالعثمانيين الذين كانوا على عداء معه، وجعل منها مناسبة لتغذية العداء بين السنة والشيعة، وبث الفرقة بينهم وهذا ما تقوم به اليوم إيران، وقد نجحت في ذلك مع كل أسف. كذلك استغل “الإنكليز” شعائر عاشوراء المتخلفة كي يبرروا بقاءهم في العراق بحجة أن شعبه يعاني من التخلف المجتمعي وأنهم-أي الإنكليز- جاءوا لينتشلوه مما هو فيه. 

ظاهرة التطبير يعود تاريخها لمرحلة ما قبل الإسلام، ظهرت للمرة الأولى في العراق مع الحضارة البابلية، فالبابليون ضربوا رؤوسهم تعبيراً عن حزنهم لمقتل الإله تموز، الفينيقيون نقلوا بفعل أسفارهم وتنقلهم، واحتكاكهم بحضارات عديدة، العادة إلى بلادهم. فبعد مقتل أدونيس ضرب الفينيقيون رؤوسهم وظهورهم حتى غطاها الدم. اما الفراعنة اعتمدوا الطريقة ذاتها، يضاف إليها الشعور بحرارة النار. تناقل التطبير ما بين الحضارات سمح له بالوصول إلى صلب الثقافة الشيعية في القرن الماضي. ففي منتصف القرن التاسع عشر، أصبح التطبير والتسوط وسائل مسلماً بها للتعبير عن الحزن لفاجعة كربلاء. مارس الوثنيون في الشرق الأدنى التطبير كواحدٍ من الطقوس العبادية بحسب التوراة، يُضاف إلى ضرب الرأس، ضرب الظهر بالسيوف والرماح، التطبير لم يكن حكراً على الوثنيين والمسلمين من بعدهم. فالجلادون، وهم فئةٌ مسيحيةُ ظهرت في العام 1210 للميلاد، اعتمدوا ضرب صدورهم ورؤوسهم كوسائل للتوبة عن الخطايا وتطهير النفس من ذنوبها. الهند وصلها التطبير أيضاً، فالهندوس، رجالاً ونساءً، كانوا يمارسونه، وأضافوا إليه ضرب الجسد بالسلاسل.

يستند دعاة التخلف المجتمعي الى رواية غير صحيحة وغير مسندة الا وهي “ان السيدة زينب بنت علي (عليها السلام) ضربت رأسها بطرف محملها، فسال الدم على وجهها. وان زينب قد شقت رأسها حزناً على أخيها.”  المبررون أصحاب الرواية لا يعون حجم الضرر الذي يلحقونه بالسيدة زينب، رمز الإعلام الحسيني ومنبر القضية ما بعد المعركة. لم تضرب زينب رأسها بالمحمل، ولم يَسل الدم على وجهها، وصية الحسين لزينب كانت واضحة: “لا تشقي علَيَ جيباً، ولا تخمشي عليَ وجهاً، ولا تدعي علَيَ بالويل والثبور إذا أنا هلكت”، وصية الحسين التي حث فيها أخته على الصبر كفيلةٌ لدحض المزاعم التي تربط التطبير بهذه الحادثة.

تطبير الأطفال هذا العام طغى على جميع الطقوس التي تمارس في هذه الأيام، حيث ان بعض الآباء يجبرون أطفالهم على تطبير رؤوسهم وضرب أنفسهم بالسلاسل؛ اعتقاداً منهم بأنها تقربهم إلى الله”. ان ما يحدث من انتهاك لحقوق الطفل في أيام عاشوراء تعتبر جريمة يجب ان يحاسب القانون مرتكبيها وان تطبير الأطفال بهذه الطرق البشعة تعني خلق فئة عمرية مشوهة نفسيا وجسدياً. هل أراد الحسين لنا أن نعذب أنفسنا وأطفالنا وأن نلقي بأنفسنا إلى التهلكة؟ كلا. انما جاء الحسين لطلب الإصلاح والقضاء على الجهل والبدع والخرافات وكل ما هو بعيد عن رسالة السماء، أما هؤلاء الخرافيون انما جاؤوا لأحياء عادات الجاهلية التي اندثرت بعد ظهور الإسلام. يقول ابن خلدون “اتباع التقاليد لا يعني أن الأموات أحياء، بل أن الأحياء أموات”.


ففي كل عام تستغل طقوس عاشوراء ومناسبتها بالشحن الطائفي والكراهية والنزعة الثأرية التي تغذيها إيران، لتضعف المجتمعات العربية من خلال تغذية الشعور بالانتماء الطائفي بعيداً عن انتماءاتهم القومية والوطنية. فترى الشحن الطائفي البغيض يزداد خلال أيام عاشوراء على سائر القنوات المدعومة من ايران، التي تروج الى العداء بين أبناء الامة الواحدة وجيرانها وشعوبها. وان الأوقات التي يقضيها هؤلاء في لطم وضرب للصدور في حالة تنقل صاحبها إلى خارج دائرة الوعي، وتجعله مفعماً بحب الثأر في غير مكانه. حيث تسعى ايران الى شحذ عدائهم لأي سلطة غير سلطتهم، والتمرد على كل سلطة أو حاكم سواهم، بزعهم ان النهج الذي يتبعوه هو نهج الحسين الذي خرج على السلطة الظالمة، صانعًا بذلك نموذجًا ملهمًا للشيعة من بعده، حسب تعليلاتهم، التي يرونها مبررًا لتغذية الأحقاد الطائفية وإيقاد الفتن ودعم مظاهر التمرد في أي بلد ذي أقلية شيعية.