في ظل الأزمة السياسية التي يعيشها العراق الجريح من الحروب، غالباً ما يكون من الصعب جداً على المشرّعين التوصل إلى توافق. ومع ذلك، في السادس والعشرين من أيار/مايو عام 2022، صوّت البرلمان العراقي بالإجماع على تمرير مشروع قانون يُجرّم التطبيع وأي شكل من أشكال التواصل أو التعاون مع إسرائيل. وقد تم اقتراح هذا القانون من قبل رجل الدين الشيعي مقتدى الصدر، زعيم التيار الذي فاز بـ73 مقعداً من أصل 329 في الانتخابات البرلمانية التي جرت في تشرين الأول/أكتوبر 2021. وجاء هذا القانون في توقيت غريب، وسط فوضى المفاوضات الفاشلة بين الكتل السياسية لتشكيل الحكومة الجديدة منذ الانتخابات.
يُجرّم هذا القانون القاسي ويحظر أي علاقات “دبلوماسية أو سياسية أو عسكرية أو اقتصادية أو ثقافية أو أي نوع آخر” مع إسرائيل. وتشمل الأفعال التي تُعدّ غير قانونية ومعاقباً عليها وفق هذا القانون: السفر من أو إلى إسرائيل؛ زيارة أي من سفاراتها أو منظماتها حول العالم؛ إقامة أي علاقة معها؛ التطبيع بأي شكل؛ الترويج لأفكار “صهيونية” علناً أو سراً عبر المؤتمرات أو وسائل التواصل الاجتماعي أو غيرها؛ الانتماء إلى منظمات صهيونية أو مساعدتها؛ أو قبول أي دعم أو تمويل منها. وهذه الأفعال يعاقب عليها بالسجن أو بالإعدام. يمثل هذا التشريع المعادي للسامية أقصى درجات الخطاب الشعبوي الذي وصلت إليه الحكومة العراقية.
يأتي هذا القانون منسجماً مع الأجندة الإيرانية الرامية إلى عزل العراق والسيطرة عليه، في وقتٍ انضمت فيه دول عربية أخرى إلى اتفاقات أبراهام (منها الإمارات والبحرين والسودان والمغرب)، وحققت فوائد دبلوماسية واقتصادية واعدة.
إن طبيعة هذا القانون تعكس مشكلة أعمق بكثير: آثار الحكم الاستبدادي في العراق وصعود عصر الأنظمة السلطوية. من الواضح أن العراق قد تحول من دولة ديمقراطية مُفترضة، كما كان يُؤمل بعد حرب عام 2003، إلى نظام استبدادي يقمع أي معارضة، كما ظهر في ردّ الحكومة على الاحتجاجات السلمية في تشرين الأول/أكتوبر 2019 وما بعدها. ومؤخراً، يحدث انتقال جديد نحو الدكتاتورية، يتجلى في استهداف واغتيال وملاحقة الناشطين الذين يمارسون حقهم في حرية التعبير. ومع هذا القانون بالتحديد، تتفاقم وتيرة القمع. فمن الذي يمنح الحكومة الحق في محاكمة الأفراد على آرائهم؟ هذا النمط من القمع يعيد إلى الأذهان ديكتاتورية صدام حسين.
يقول ناشطون عراقيون، من بينهم المحلل السياسي الكردي العراقي هيوا عثمان، إن هناك نمطاً واضحاً من السياسات الحكومية التي تهدف إلى إسكات الأصوات الحرة. وقد دعم عثمان حركة الثالث من حزيران الأخيرة للدفاع عن حرية التعبير، محذّراً من “الانتقال التدريجي نحو تقاليد الاستبداد والدكتاتورية والقمع”. وفي الوقت نفسه، حدثت سيطرة تدريجية للسلطتين التشريعية والتنفيذية على القضاء، مما يشكل تهديداً للعدالة. فبدلاً من وجود سلطة قضائية مستقلة، أصبح المجلس الأعلى للقضاء خاضعاً للنظام السياسي الموالي لإيران، بقيادة رئيسه القاضي فائق زيدان. وهكذا، تُستخدم القوانين القديمة من عهد الدكتاتور السابق لتجريم المعارضين السياسيين والصحفيين والنشطاء المناهضين للحكومة. ووفقاً لعثمان، فإن العراق يقترب من عصر دكتاتوري جديد. الدستور الذي يُفترض أن يحمي حرية التعبير أصبح يُنتهك بشكل ممنهج، والفصل بين السلطات التشريعية والقضائية تآكل تماماً، حيث أصبحت المؤسستان تخدمان الأجندة السياسية المدعومة من إيران.
من خلال قراءة قانون مناهضة التطبيع، يتضح أنه يقيد حرية التعبير ويحظر إبداء أي آراء مؤيدة للسلام بين العراق وإسرائيل. ومع ذلك، فإن القانون يتعارض مع الدستور العراقي، الذي تنص مادته الثانية على أن:
(ب) “لا يجوز سن قانون يتعارض مع مبادئ الديمقراطية”، و(ج) “لا يجوز سن قانون يتعارض مع الحقوق والحريات الأساسية المنصوص عليها في هذا الدستور”.
كما يتعارض بشكل صريح مع المادة 38 التي تنص على أن “تكفل الدولة بما لا يخل بالنظام العام والآداب: (1) حرية التعبير بكل الوسائل؛ (2) حرية الصحافة والطباعة والإعلام والنشر.”
خطر هذا القانون يكمن في إمكانية استخدامه كأداة لاتهام المعارضين للحكومة بعلاقات تطبيعية، خصوصاً في ظل فساد القضاء، ليصبح وسيلة لإسكات الأصوات المعارضة وبثّ الخوف في أوساط الناشطين والصحفيين والمصلحين. وقد شهدنا هذا النمط من القمع خلال احتجاجات 2019–2021، حيث واجه المتظاهرون السلميون القتل والاعتقال والتعذيب والمحاكمات الجائرة. كما ستكون لهذا القانون تداعيات على علاقات العراق الدبلوماسية مع الدول العربية الست التي أبرمت اتفاقات سلام مع إسرائيل. وسيسمح أيضاً لإيران بتوسيع هجماتها ضد “مراكز مرتبطة بإسرائيل” في إقليم كردستان العراق، كما حدث في هجوم 13 آذار قرب القنصلية الأميركية الجديدة، وهجوم 5 أيار الذي استهدف مصفاة قرب أربيل بستة صواريخ.
وبالرغم من رفض العراقيين المتزايد للنفوذ الإيراني، والذي تمثّل في احتجاجات السنوات الماضية، فإن الهيمنة الإيرانية على مؤسسات الدولة العراقية استمرت طوال الـ19 عاماً الماضية. فبرغم الاختلافات الظاهرية بين الكيانات الشيعية، حيث يرتبط بعضها مباشرة بإيران بينما يدّعي التيار الصدري اتباع أجندة وطنية عراقية، إلا أن الهيمنة الإيرانية لا تزال قائمة. ووفقاً للباحث رنج العلّادين من مركز سياسة الشرق الأوسط، فإن أحد الأسباب هو أن “الصدريين والميليشيات الموالية لإيران يعملون ضمن رؤية أيديولوجية واحدة ترتكز على تفوق الشيعة ومناهضة الإمبريالية الغربية”. ومع الأغلبية الشيعية وطبيعة الحكم الطائفية، يصعب تخيل تراجع النفوذ الإيراني في المستقبل القريب.
أما ردّ وزارة الخارجية الأميركية على هذا القانون، والذي نُشر في بيان صحفي في 26 أيار، فكان مهماً، لكنه غير كافٍ. وكما أشار جوزيف برودي، رئيس مركز الاتصالات من أجل السلام، يجب على الولايات المتحدة دعم دعاة السلام المحليين ومقاومة هذا القانون لاحتواء التهديدات الحالية للحريات في العراق. وأكد برودي أن “القانون يزعم أيضاً أنه يمتد ليشمل العراقيين في الخارج، مما يجعل أكثر من 100 ألف أميركي من أصل عراقي وأصولهم أهدافاً محتملة، إضافة إلى الأميركيين الذين يشاركون في جهود السلام داخل الأراضي العراقية”. وعند تطبيق هذا القانون، فإن مجرد تواصل بسيط مع مواطن إسرائيلي يمكن أن يؤدي إلى الحكم بالإعدام على العراقي المعني. للأسف، هذا القانون المناهض لحقوق الإنسان يضر بمبادرات السلام في الشرق الأوسط.
في المشهد السياسي العراقي الراهن، لا يبدو أن هناك بصيص أمل. فبينما تشهد دول مثل الإمارات تطوراً وتقدماً في مختلف المجالات، يغرق العراق أكثر فأكثر في دولة المافيا والميليشيات، مع تدهور حقوق الإنسان والبنية التحتية وسَنّ قوانين مناهضة للدستور. وبصفتي عراقياً من المهجر يطالب بالإصلاح ويدعم السلام مع إسرائيل، أرى أن هذا القانون يشكّل خطوة خطيرة إلى الوراء في مسار السياسة العراقية.