بين الاستبداد والتحالفات الجديدة: العراق واتفاقات السلام

في ضوء قانون مناهضة التطبيع المثير للجدل الذي أُقرّ مؤخرًا في العراق، ومع تعثر جهود تشكيل حكومة جديدة بعد مرور تسعة أشهر على الانتخابات، يمرّ المشهد السياسي العراقي بمرحلة جديدة من الاضطراب والانهيار، في وقتٍ تشهد فيه المنطقة تحولاتٍ كبيرة بعد اتفاقات إبراهيم وانضمام أربع دول عربية لتطبيع علاقاتها مع إسرائيل، وسط تكهنات بانضمام دول أخرى قريبًا. يجد العراق نفسه اليوم في مأزق الانقسام بين إيران وجيرانه العرب، ومع الأسف، يميل بوضوح نحو السياسة الإيرانية، مما يزيد من تعقيد مستقبله السياسي ويهدد علاقاته الدبلوماسية مع الدول العربية المجاورة.

لا يوجد أي مبرر حقيقي لهذا القانون المناهض للتطبيع، سوى أنه يُستخدم كأداة لإسكات الأصوات المعارضة للحكومة عبر اتهامها بعلاقات مع إسرائيل، ومعاقبتها بالسجن أو حتى الإعدام، خاصة أن القانون يشمل العراقيين داخل البلاد وخارجها. كما أنه محاولة من التيار الصدري لـ”سحب البساط” من خصومه الشيعة، واستعراض وطنية زائفة على حساب مصلحة الشعب العراقي، في وقتٍ يضر فيه هذا القانون بعلاقات العراق الدبلوماسية مع جيرانه الذين وقعوا اتفاقات سلام وتطبيع.

توقيت هذا القانون مثير للريبة، إذ لم تكن هناك أي ضرورة ملحّة لاتخاذ مثل هذا الموقف، خصوصًا في ظل استمرار مفاوضات تشكيل الحكومة الجديدة منذ أكثر من ثمانية أشهر، بينما توجد قضايا أكثر أهمية، مثل إعادة النظر في المادة 41 التي تمنح “الزوج” حق معاقبة زوجته. يبدو أن هذا القانون لم يكن إلا حركة سياسية استعراضية من التيار الصدري لإظهار قومية متطرفة في ظرف سياسي مأزوم. وبدلًا من التركيز على القضايا الجوهرية في البلاد، لجأت القوى السياسية إلى اختراع “أعداء خارجيين” مثل إسرائيل لصرف أنظار الشعب عن الفشل الحكومي وتدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية.

أما عن الموقف الشعبي من التطبيع مع إسرائيل، فإن القول بأن “العراقيين يرفضون التطبيع” ليس دقيقًا تمامًا. فبصفتي عراقية، أعلم أن الشعب العراقي بعد عقود من المعاناة يتوق إلى التغيير. والواقع أن العراقيين لا يعارضون بالضرورة إقامة علاقات مع إسرائيل، بل يدركون أن التطبيع قد يجلب فرصًا اقتصادية وسياسية إيجابية، لكنهم يخشون الإفصاح عن آرائهم. فالقانون القديم لعام 1969 الذي يجرّم أي تواصل مع “الكيان الصهيوني” ويعاقب عليه بالسجن أو الإعدام، ما زال يترك أثرًا نفسيًا لدى العراقيين، حتى بعد سقوط نظام صدام عام 2003. ورغم أن دستور 2005 يكفل حرية التعبير، إلا أن الخوف ما زال يمنع العراقيين داخل البلاد من التعبير عن تأييدهم لأي علاقة مع إسرائيل. ومع صدور هذا القانون الجديد، أصبح هذا الخوف مؤسسًا ومقننًا، مما يزيد من قمع حرية التعبير.

وعلى سبيل المقارنة، عندما طبّعت الإمارات علاقاتها مع إسرائيل، أظهر الشعب الإماراتي تفاعلًا إيجابيًا وهادئًا، والعراقيون ليسوا مختلفين عنهم كثيرًا. فلو أن الحكومة العراقية انضمت إلى اتفاقات إبراهيم، لكان من المتوقع أن يُظهر العراقيون موقفًا مشابهًا من الانفتاح والدعم.

في خريف عام 2021، عُقد مؤتمر في أربيل لدعم انضمام العراق إلى اتفاقات إبراهيم. وقد أدانته الحكومة العراقية بشدة، وهددت المشاركين فيه وبدأت حملات اعتقال ومحاكمات. ومن المنطقي الاعتقاد أنه لو لم تتدخل الحكومة بهذا الشكل القمعي، لكانت هناك مبادرات أخرى لدعم الانفتاح والعلاقات مع إسرائيل. فالكثير من العراقيين أصبحوا يدركون أن السياسات الموالية لإيران لا تخدم العراق، وأن البحث عن خيارات أخرى في السياسة الخارجية قد يكون أكثر فائدة للبلاد.

يمثل هذا القانون في جوهره تراجعًا خطيرًا في مجال حقوق الإنسان في العراق، واستمرارًا لمحاولات النظام إسكات المعارضين وتجريم حرية التعبير. فمنذ احتجاجات 2019–2021، شهد العراق حملة اغتيالات ممنهجة ضد الناشطين والصحفيين وكل من يعارض الحكومة. وخلال العقدين الماضيين، انتقل العراق تدريجيًا من نظام ديمقراطي هش إلى حكم استبدادي سلطوي. أصبح التعبير عن أي رأي ناقد يُقابَل بالقمع والتهديد والاعتقال والقتل، مما ينذر بمرحلة جديدة من الديكتاتورية.

من الضروري التمييز بين الحكومة العراقية والشعب العراقي؛ فالأولى كيان فاسد يسعى لمصالحه الخاصة من خلال التحالف مع إيران، أما الثانية فقد أظهرت بوضوح رفضها للهيمنة الإيرانية ومعارضتها للنظام في أكثر من مناسبة. وبالتالي، فإن القوانين التي تصدرها الحكومة لا تمثل الإرادة الشعبية. هذا القانون المناهض للتطبيع ليس سوى قرار سياسي صُنع في طهران، وهو انتهاك صريح لحقوق الإنسان وخطوة أخرى نحو الاستبداد وترسيخ الحكم السلطوي في العراق.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *