السعي وراء الحقيقة في العراق
في العراق، يتكشف السعي وراء الحقيقة وسط مشهدٍ عنيف، حيث يصبح التعبير عن الحقيقة وإنتاج المعرفة بحد ذاتهما ساحةً للصراع. بالنسبة للنشطاء والمدافعين عن حقوق الإنسان والصحفيين، وخاصة أولئك الذين يتحدّون البنى الأبوية والطائفية والميليشيات الموالية للدولة، فإنّ التحدث ضد الظلم المنهجي لا يُعدّ مجرد فعل محفوف بالمخاطر، بل غالبًا ما يكون مهددًا للحياة.
بالنسبة لأولئك الذين يحققون في بنية الدولة الطائفية والفساد المتجذر والسيادة غير الرسمية للفاعلين المسلحين، تصبح الساحة محفوفةً بالمخاطر. فهؤلاء يستخدمون العنف ليس فقط كأداة للسيطرة، بل كآلية تأديب ضد المقاومة المعرفية. ويجسّد اختطاف الباحثة إليزابيث تسوركوف، طالبة الدكتوراه في جامعة برينستون، في بغداد في مارس 2023، كيف تعاقب الأنظمة الذكورية العسكرية أولئك الذين يجرؤون، خصوصًا من يُنظر إليهم كغرباء أو أصحاب انتماءات غير تقليدية، على كشف أو زعزعة السرديات السائدة.
نمط من العنف ضد الساعين إلى الحقيقة
منذ عام 2003، شهد العراق ظاهرة مقلقة: كل من يتحدى الكيانات النافذة أو يكشف الخلل البنيوي يصبح هدفًا ممنهجًا. فالعنف ضد الصحافة وحرية التعبير أو البحث العلمي ليس عرضيًا، بل جزء من منظومة أوسع من الإخماد تهدف إلى الحفاظ على هياكل الهيمنة الطائفية والعِرقية المتداخلة.
ووفقًا للجنة حماية الصحفيين، قُتل ما لا يقل عن 282 صحفيًا في العراق منذ عام 2003، وتعرض كثيرون آخرون للاختطاف أو التهديد. ولم يسلم النشطاء أيضًا؛ إذ سُجلت مئات الحالات، منها اغتيال الدكتورة ريهام يعقوب، الناشطة البارزة في مجال حقوق المرأة، في البصرة في أغسطس 2020، وكذلك مقتل الناشط المدني حسن عاشور في محافظة ذي قار في أبريل 2021.
هذه الحوادث ليست معزولة، بل تعكس بيئة أوسع تُواجَه فيها المعارضة بالعنف، وغالبًا ما يتمتع الجناة بالإفلات من العقاب. وغالبًا ما تُوجَّه أصابع الاتهام إلى الميليشيات الموالية لإيران ضمن قوات الحشد الشعبي، التي تستخدم الاغتيالات المستهدفة والاختفاء القسري وأشكال العنف المنظم كأدوات للحفاظ على النفوذ السياسي والاقتصادي.
فهذه التكتيكات ليست عرضية، بل تهدف إلى حماية الموارد المالية الضخمة التي تستخرجها هذه الجماعات من شبكات الفساد العميقة في العراق، بما في ذلك السيطرة على العقود الحكومية والمعابر الحدودية وشبكات التهريب. ومن خلال القضاء على النقاد وقمع التدقيق الاستقصائي، تُحكم هذه الميليشيات قبضتها على اقتصادٍ خفيٍّ يغذي قوتها المادية ويكرس إفلاتها من العقاب. وقد وثّقت هيومن رايتس ووتش العديد من الحالات التي قُتل فيها أو اختفى ناشطون ومتظاهرون في العراق دون محاسبة تُذكر.
قضية إليزابيث تسوركوف
في حادثة ذات صلة وأهمية بالغة، اختُطفت إليزابيث تسوركوف، الباحثة الروسية-الإسرائيلية وطالبة الدكتوراه في جامعة برينستون، في مارس 2023 في بغداد على يد ميليشيا كتائب حزب الله الموالية لإيران. كانت في ذلك الوقت تجري بحثًا ميدانيًا حول الطائفية وتداعياتها الاجتماعية والسياسية في العراق، مع تركيز خاص على تأثيراتها الجندرية على النساء العراقيات.
وفي تطور حديث يحمل بعض الأمل، ظهرت تقارير تشير إلى أن المفاوضات لإطلاق سراحها قد تقترب من اختراق محتمل، ربما عبر صفقة تبادل سجناء رفيعة المستوى.
تُبرز قضية تسوركوف الخطر الشديد الذي يواجهه الباحثون والنشطاء الذين يتعاملون نقديًا مع تقاطعات الطائفية والعسكرة وتفكك الدولة في العراق. فاختطافها يمثل نموذجًا للمخاطر التي تواجه من يتحدى الهياكل السلطوية أو يسعى لتوثيق واقع الفئات المهمشة. وبينما يُقال إن الجهود الدبلوماسية لإطلاق سراحها قد تقدّمت، فإن الوضع لا يزال غير مؤكد، فيما تواصل أسرتها الدعوة إلى الشفافية والضغط الدولي لضمان عودتها الآمنة.
التداعيات الأوسع
إن استهداف شخصيات مثل إليزابيث تسوركوف يفرض أثرًا مروعًا على البحث الأكاديمي والعمل الصحفي والنشاط المدني في العراق. فعندما يُسكت الباحثون والنشطاء والساعون إلى الحقيقة عبر الإكراه أو العنف أو الاختفاء، تُطفأ مواقع إنتاج المعرفة النقدية، وتظل مظالم البنى العميقة دون مساءلة أو تفكيك.
إن مناخ الإفلات من العقاب، حيث نادرًا ما يُحاسَب مرتكبو مثل هذه الأفعال، يُقوّض الثقة العامة بالمؤسسات الحكومية ويهدم أسس سيادة القانون والمساءلة. وفي غياب حماية فعالة لأولئك المنخرطين في العمل المعرفي والنقدي، يخاطر العراق ليس فقط بالركود الفكري والمدني، بل أيضًا بتكريس حالة عدم الاستقرار، مع تعمّق دوائر القمع وانسداد أفق الإصلاح الحقيقي.
دعوة إلى التحرك
يتعيّن على المجتمع الدولي أن يُركّز بشكل عاجل على حماية الصحفيين والنشطاء والباحثين في العراق، لا باعتبارها مسألة هامشية، بل كضرورة أساسية في مواجهة العنف البنيوي. فهؤلاء الذين يسعون إلى قول الحقيقة يواجهون تهديدات متقاطعة الجذور في أنظمة طائفية وعسكرية.
لذا، ينبغي أن يتجاوز النداء من أجل العدالة الشعارات العامة إلى أخلاقيات تضامن عابرة للحدود، تعترف بأن الجندر والعرق والهوية السياسية تشكل طبيعة المخاطر التي يواجهها الأفراد عند تحديهم للسلطة المهيمنة.
إن قضية إليزابيث تسوركوف تجسّد هذه الدينامية؛ فكونها امرأة تُجري بحوثًا ميدانية حول الطائفية وتأثيرها في المجتمع العراقي، وبالأخص على النساء، يجعل من اختطافها على يد ميليشيا موالية لإيران ليس مجرد مأساة شخصية، بل عملاً سياسياً يهدف إلى إسكات الصوت النسوي. وبالتالي، فإن ضمان إطلاق سراحها الآمن يجب أن يُنظر إليه ليس فقط كضرورة إنسانية، بل أيضًا كـ واجبٍ نسويٍ وأخلاقيٍ يؤكد على الحق في إنتاج المعرفة التي تتحدى السرديات السائدة وتُبرز تجارب المقموعين.
في زمن يتسم بتصاعد التضليل وقمع الفكر الحر وعودة السلطويات، لم يكن الدفاع عن حرية الفكر، خصوصًا تلك الجذرية النسوية والمناهضة للاستعمار، أكثر إلحاحًا مما هو عليه اليوم. إن الواقع العراقي المعقّد والمتعدد الطبقات يستحق أن يُدرَس بعناية وعمق ونقد، ولكن هذا لا يمكن أن يتحقق ما لم يطالب المجتمع الدولي بضمان أمن أولئك الذين يخوضون هذا المسعى، خصوصًا من يجعلون الظلم المرئي أكثر وضوحًا.
حتى يصبح العراق مكانًا لا يُعاقَب فيه طرح الأسئلة الصعبة بالموت أو الاختفاء، سيظل مستقبله رهينة ليس فقط للميليشيات، بل للصمت ذاته — ذلك الصمت الذي يشكل التهديد الأكبر للعدالة.